قد يكون ماحدث مجرد صدفة تسببت في أن تأتي أزمة الاختناق في تموين السيارات بالسولار التي حدثت الاسبوع الماضي في عدد من محافظات مصر عقب أزمة توزيع اسطوانات البوتاجاز التي تقع عادة في هذا التوقيت من كل عام, |
|
|
|
لكن هذا التفسير لما حدث في سوق البترول المحلي علي امتداد الشهرين
الأخيرين هو أكثر التفسيرات سطحية وسذاجة رغم التتابع الزمن
للأزمتين, لأن أزمة كبيرة في توزيع أي من أنواع الوقود في بلد
ينمو استهلاكه من الطاقة بمعدلات تزيد علي10 في
المائة, وتدفع فيه الخزانة العامة ما يصل إلي حدود70
مليار جنيه دعما سنويا كي تصل هذه المنتجات البترولية الي المواطنين
بأسعار تتواءم نسبيا مع قدرات الناس, ويسيطر فيه القطاع الخاص
علي95 في المائة من بنية محطات التوزيع للبترول,
وتتربص فيه مجموعات من الاحتكاريين وتجار السوق السوداء وجماعات واسعة من
الأرزوقية بالأسواق, تنتظر فرصة اختناق توزيع أي من السلع
المهمة تمكنها من تهليب بعض الأرباح السريعة, مثل هذه الأزمة
بملامحها المصرية التي اعتدنا عليها كثيرا في عدد من اختناقات التوزيع
لسلع مصرية مهمة لايمكن ان تجد تقسيرها الصحيح في مجرد الصدفة الزمنية
التي جعلت أزمة السولار تأتي عقب أزمة البوتاجاز!
والصحيح بالفعل ان سبب الأزمة في الحالين هو عدم تكافؤ المعروض في الأسواق
مع حاجة السوق المتزايدة لهذه السلعة, لكن السوق المصرية عودتنا
منذ زمن علي عدم احترام قوانين العرض والطلب في نطاق عملها الطبيعي لضعف
الرقابة علي الأسواق التي تجعل في قدرة بعض الاحتكاريين وفاسدي الذمم
تزوير قوانين السوق, يصطنعون في معظم الأحيان طلبا زائفا علي
السلعة بمجرد إطلاق شائعة تسري كالنار في الهشيم كي يشح المعروض وترتفع
الأسعار, يساعدهم علي ذلك ضعف الضمير الوطني الذي يجعل التربح
وليس الربح فقط جزءا من الدخل الحلال للعمل في التجارة رغم الفروق الشاسعة
بين الربح والتربح, وهذا ما حدث في الازمتين, ارتفع
سعر اسطوانة البوتاجاز في السوق السوداء الي أكثر من25 جنيها
ووصل في بعض المناطق البعيدة نسبيا الي40 جنيها,
ونشطت في أزمة السولار تجارة الجراكن والبراميل علي مدي الأيام الخمسة
التي أعقبت شائعة يوم الجمعة5 مارس, عندما ترددت
الشائعة في عدد من محطات توزيع الوقود في بعض المحافظات في توقيت
واحد, وتدفقت سيارات النقل ومقطوراتها وعربات الميكروباص
والأتوبيسات السياحية التي يعمل معظمها بالسولار علي محطات الوقود يصل
بطابور السيارات المنتظرة الي عرض الشارع خارج المحطة ويكاد
يغلقه.
وكما أن للسوق آلياتها الصحيحة عندما يتوافق العرض مع الطلب فإن للأزمة
آلياتها الخاصة عندما يختل العرض والطلب وهذا ما حدث بالفعل,
قامت معظم محطات توزيع الوقود ان لم يكن جميعها بحجب السولار عن البيع
ووضعت علي مداخلها لافتات صغيرة تفيد نفاد كميات السولار في المحطة طمعا
في تحقيق مكاسب إضافية إن صدقت الشائعة وارتفعت أسعار السولار
بالفعل, ونظرا لطول سيارات النقل ومقطوراتها فإن مجرد وجود خمس
أو ست سيارات في إحدي محطات الوقود يكفي كي تأخذ الأزمة صورتها
المعتادة, كما نشاهد علي نحو منتظم تزاحم سيارات الركوب
والتاكسي الصغيرة علي المحطات للحصول علي بنزين80 في طوابير تصل
خارج المحطة الي عرض الشارع والطريق.
وبالطبع لابد أن تكون هناك بعض الأخطاء في قطاع البترول ساعدت علي تمرير
الأزمة وظهورها, تتمثل في ضعف قرون الاستشعار لدي قطاعات
التسويق التي تمكنها من حصار آثار الشائعات أولا بأول, أو غياب
خطط الطوارئ التي تصلح سريعا الخلل المفتعل بين العرض والطلب نتيجة نقص
طارئ في الكميات المخطط استهلاكها يتطلب الاستعواض قبل الموعد
المحدد, أو حاجة قطاع التسويق المؤكدة الي دراسة أكثر دقة
لتوزيع مواقع محطات الوقود التي تمثل البنية الأساسية لشبكة توزيع الطاقة
علي نحو جغرافي أكثر دقة وشمولا, يهيئ محطات خاصة لتوزيع
البنزين80 علي سيارات التاكسي والركوب الصغيرة بحيث لا تعوق
المرور في الشوارع المحيطة بالمحطة أو تضمن وجود المحطات التي توزع
السولار علي مداخل الطرق الأساسية والفرعية خارج المدن.
لكن تحميل قطاع البترول وحده مسئولية الأزمة يكشف عن قصور حقيقي في توصيف
ماحدث ونقص فادح في تقصي الأسباب الصحية للأزمة, خاصة ان
الانتاج المحلي من السولار يغطي75 في المائة من احتياجات مصر من
خلال تسعة معامل تكرير جميعها يعمل بكامل طاقته التصميمية, ولم
يتعرض أي منها خلال الأزمة أو قبلها لعمليات إصلاح أو عمرة شاملة أدت الي
تعطيل الإنتاج أو خفضه, كما أن البيانات المعلنة لقطاع البترول
تؤكد توافر حجم غير قليل من احتياطيات السولار في مستودعات التخزين يغطي
استهلاك مصر لأكثر من30 يوما, ويمكن قطاع البترول من
تغطية النقص المفاجئ في حالات الطواري في أقل وقت ممكن.
وكما يوجد في مصر وفرة من المتربصين بالأسواق بقصد التهليب السريع من خلال
اصطناع حالات اختناق مفتعلة في بعض السلع المهمة, يوجد كذلك
وفرة من المتربصين بالحكومة فعلت خيرا أم أساءت بدعوي أن هذه هي وظيفة
المعارضة, هؤلاء كانوا جاهزين لنفخ الأزمة وتوسيعها بالادعاء
بأن أزمة السولار أثرت علي المخابز وشلت حركة النقل وهددت بتوقف النشاط
الصناعي في معظم مواقع الانتاج, رغم أن أرصدة السولار في جميع
مخابز مصر خلال اسبوع الأزمة لم تكن تقل عن استهلاك3
أيام, وبرغم أن المصانع التي تتغذي بالسولار علي نحو دوري ومنظم
كانت تحتفظ بمخزون كاف من السولار لم يؤثر علي عملية الانتاج,
لأن أزمة السولار كما تكشف أخيرا حصرت نفسها خلال الأيام الخمسة في عدد من
محطات تموين السيارات بالسولار, لا أكثر من ذلك.
جزء من مسئولية ما يحدث من اختناق في الأسواق المصرية يعود بالفعل الي
غياب الثقة بين الحكومة والناس, نتيجة ضعف أدوات الحكومة في
الوصول السريع إلي الجماهير وتلكؤها في معظم الأحيان في اتخاذ قرارات
واضحة في قضية الدعم تتميز بالعلانية والشفافية والوضوح في إطار خطة معلنة
تأخذ بمنهج التدرج, بدلا من مفاجأة الناس كما يحدث في بعض
الأحيان بأخبار تأخذ وقع الصاعقة لم يتم التمهيد الجيد لها بحيث تصبح موضع
قبول نسبي من الرأي العام, أو إرباك الرأي العام بكثرة الحديث
ليل نهار عن ضرورة ترشيد الدعم دون اتخاذ خطوة واحدة في هذا
الاتجاه.
وذلك بالفعل هو واقع السوق الراهنة الذي جعل المجتمع بأكمله في حالة ترقب
يتوقع ارتفاع أسعار بعض أنواع الوقود خاصة البوتاجاز والسولار في أي
وقت, وهيأ المناخ لسريان الشائعة في طول البلاد وعرضها بأسرع من
الصوت والضوء.. ولكي تنجح الشائعة في إحداث أثرها سريعا وتقع
حالة الاختناق التي تمكن المحتكرين وتجار السوق السوداء من توسيع دائرة
التهليب يحسن ان يكون السبب المطروح لتبرير الشائعة هو عزم الحكومة علي
رفع الأسعار غدا أو بعد غد, ومع الأسف تتكرر هذه الدورة الزائفة
من الفعل ورد الفعل دون أن تتعلم الحكومة أو يفطن الناس لأن الأمر مجرد
شائعة هدفها خلق حالة طلب غير صحيح علي السلعة تؤدي الي ظهور السوق
السوداء.
وما يزيد الطين بلة ان الحكومة تملك أدوات استقصاء وبحث تمكنها من معرفة
ردود أفعال الشارع المصري علي الخيارات المحتملة لزيادة أسعار بعض
المنتجات البترولية وردود أفعالها المتوقعة, بما يمكنها من
اختيار البديل الأكثر رشدا وقبولا الذي يمكن ان يساعد علي تخفيف معاناة
الناس وتحقيق استقرار الأسواق, لكن الحكومة لم تفعل وهي إن فعلت
كما حدث في تجربة بطاقات التموين الذكية في محافظة السويس والتي كان
المفروض ان تكون مجرد حقل إرشاد يساعد الحكومة علي تغطية الثغرات في خطة
شاملة تستهدف تحديث بطاقات السلع التموينية في كل أرجاء مصر كي يصل الدعم
الي مستحقيه, لكن الحكومة كفت الماجور علي تجربة السويس ولم
تكشف شيئا عن خياراتها المحتملة.
وقد يكون من الطبيعي ان يطال شطط النقد في أزمتي البوتاجاز والسولار قطاع
البترول لأنه القطاع المسئول, ولأن التتابع الزمني للأزمتين
يوحي بأن هناك قصورا وتقصيرا ينبغي معرفة أسبابه, ولأنه ما من
أحد ينبغي أن يكون فوق النقد والمساءلة, لكن واجب الإنصاف يقتضي
بعض العدل إزاء قطاع اقتصادي مهم لمصر ربما يعاني من بعض
الأخطاء, لكن ذلك لايبرر حالة الترصد المسبق التي يستشعرها
العاملون في القطاع ربما لأسباب لايكون لهم دخل فيها.. وأظن ان
تحميل قطاع البترول مسئولية قرار سياسي يتعلق ببيع البترول لاسرائيل
والتشكيك المتعمد في وطنية بعض العاملين في هذا القطاع أمر يتجاوز واجب
الإنصاف وحدود العدل, كما أن إهدار منجزات هذا القطاع بسبب أزمة
طارئة تتعلق بتموين سيارات النقل بالسولار في عدد من محطات الوقود أمر
يناقض قواعد العدالة ويهدر جهود آلاف العاملين في هذا القطاع الذين نجحوا
علي امتداد العقدين الاخيرين في رفع احتياطيات مصر من البترول والغاز التي
كانت علي وشك النفاد الي حدود18 مليار برميل متكافئ من خلال
أكثر من150 اتفاقية للبحث والاستكشاف تزيد حجم الاستثمارات
السنوية بمعدل ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار كل عام, وتمكنوا
أخيرا من إنجاز خطوة حضارية مهمة بوصول الغاز الطبيعي الي كل محافظات
الصعيد من خلال مشروع عملاق مد خطوط أنابيب الغاز من دهشور شمالا الي
أسوان جنوبا بطول ألف كيلومتر سوف يغير صورة الحياة في صعيد
مصر, وفعلوا الشيء نفسه في سيناء لتهيئة البنية الصحيحة لتعمير
شبه جزيرة سيناء وتحويلها الي منطقة جذب سكاني تسهم في تحقيق أمن مصر
القومي, ونجحوا في توصيل الغاز الطبيعي الي جميع محافظات مصر
بحيث يدخل الي أكثر من6 ملايين وحدة سكنية في العام,
وتمكنوا من زيادة حجم صادرات مصر البترولية بما يزيد علي وارداتها
البترولية, ويحقق فائضا سنويا يتجاوز خمسة مليارات
دولار.
إنني لا أطالب بحصانة خاصة لهؤلاء ولكن فقط بعض الإنصاف الذي يجعلهم يحسون ان المصريين يعرفون جيدا حجم هذا الإنجاز الضخم.